الفصل التاسع عشر في العلوم العقلية و أصنافها
و أما العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان من حيث إنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم و يستوون في مداركها و مباحثها. و هي موجودة في النوع الإنساني منذ كان عمران الخليقة. و تسمى هذه العلوم علوم الفلسفة و الحكمة و هي مشتملة على أربعة علوم. الأول علم المنطق و هو علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة. و فائدته تمييز الخطأ من الصواب فيما يلتمسه الناظر في الموجودات و عوارضها ليقف على تحقيق الحق في الكائنات نفيا و ثبوتا بمنتهى فكره. ثم النظر بعد ذلك عندهم إما في المحسوسات من الأجسام العنصرية و المكونة عنها من المعدن و النبات و الحيوان و الأجسام الفلكية و الحركات الطبيعية. أو النفس التي تنبعث عنها الحركات و غير ذلك. و يسمى هذا الفن بالعلم الطبيعي وهو العلم الثاني منها. و إما أن يكون النظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات و يسمونه العلم الإلهي و هو العلم الثالث منها. و العلم الرابع و هو الناظر في المقادير و يشتمل على أربعة علوم و هي تسمى التعاليم. أولها علم الهندسة و هو النظر في المقادير على الإطلاق. إما المنفصلة من حيث كونها معدودة أو المتصلة و هي إما ذو بعد واحد و هو الخط أو ذو بعدين و هو السطح أو ذو أبعاد ثلاثة و هو الجسم التعليمي. ينظر في هذين المقادير و ما يعرض لها أما من حيث ذاتها أو من حيث نسبة بعضها إلى بعض. و ثانيها علم الأرتماطيقي و هو معرفة ما يعرض للكم المنفصل الذي هو العدد و يما يوجد له من الخواص و العوارض اللاحقة. و ثالثها علم الموسيقى و هو معرفة نسب الأصوات و النغم بعضها من بعض و تقديرها بالعدد و ثمرته معرفة تلاحين الغناء. و رابعها علم الهيئة و هو تعيين الأشكال للأفلاك و حصر أوضاعها و تعددها لكل كوكب من السيارة و الثابتة و القيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية المشاهدة الموجودة لكل واحد منها و من رجوعها و استقامتها و إقبالها و إدبارها.
فهذه أصول العلوم الفلسفية و هي سبعة. المنطق و هو المقدم منها و بعده التعاليم فالأرتماطيقي أولا ثم الهندسة ثم الهيئة ثم الموسيقى ثم الطبيعيات ثم الإلهيات و لكل واحد منها فروع تتفرع عنه. فمن فروع الطبيعيات الطب. و من فروع علم العدد علم الحساب و الفرائض و المعاملات. و من فروع الهيئة الأزياج و هي قوانين لحسبانات حركات الكواكب و تعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك. و من فروع النظر في النجوم علم الأحكام النجومية. و نحن نتكلم عليها واحدا بعد واحد إلى آخرها.
و اعلم أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام و هما فارس و الروم. فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم على ما بلغنا لما كان العمران موفورا فيهم و الدولة و السلطان قبل الإسلام و عصره لهم. فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم و أمصارهم. و كان للكلدانيين و من قبلهم من السريانيين و من عاصرهم من القبط عناية بالسحر و النجامة و ما يتبعها من الطلاسم. و أخذ ذلك عنهم الأمم من فارس و يونان فاختص بها القبط و طمى بحرها فيهم كما وقع في المتلو من خبر هاروت و ماروت و شأن السحرة و ما نقله أهل العلم من شأن البرابي بصعيد مصر. ثم تتابعت الملل بحظر ذلك و تحريمه فدرست علومه و بطلت كأن لم تكن إلا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصنائع الله أعلم بصحتها. مع أن سيوف الشرع قائمة على ظهورها مانعة من اختبارها.
و أما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما و نطاقها متسعا لما كانت عليه دولتهم من الضخامة و اتصال الملك. و لقد يقال إن هذه العلوم إنما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا و غلب على مملكة الكينية فاستولى على كتبهم و علومهم. إلا أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس و أصابوا من كتبهم و صحائف علومهم ما لا يأخذه الحصر كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في شأنها و تنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه و إن يكن ضلالا فقد كفاناه الله. فطرحوها في الماء أو في النار و ذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا.
و أما الروم فكانت الدولة منهم ليونان أولا و كان لهذه العلوم بينهم مجال رحب و حملها مشاهير من رجالهم مثل أساطين الحكمة و غيرهم. و اختص فيها المشاؤون منهم أصحاب الرواق بطريقة حسنة في التعليم. كانوا يقرؤون في رواق يظلهم من الشمس و البرد على ما زعموا. و اتصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه إلى سقراط الدن ثم إلى تلميذه أفلاطون ثم إلى تلميذه أرسطو ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفرادوسي و تامسطيوس و غيرهم. وكان أرسطو معلما للإسكندر ملكهم الذي غلب الفرس علي ملكهم و انتزع الملك من أيديهم. و كان أرسخهم في هذه العلوم قدما و أبعدهم فيها صيتا و شهرة. و كان يسمى المعلم الأول فطار له في العالم ذكر. و لما انقرض أمر اليونان و صار الأمر للقياصرة و أخذوا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل و الشرائع فيها. و بقيت في صحفها و دواوينها مخلدة باقية في خزائنهم. ثم ملكوا الشام و كتب هذه العلوم باقية فيهم.
ثم جاء الله بالإسلام و كان لأهله الظهور الذي لا كفاء له و ابتزوا الروم ملكهم فيما ابتزوه للأمم. و ابتدأ أمرهم بالسذاجة و الغفلة عن الصنائع حتى إذا تبحبح السلطان و الدولة و أخذوا من الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم و تفننوا في الصنائع و العلوم تشوفوا إلى الإطلاع على هذه العلوم الحكمية بما سمعوا من الأساقفة و الأقسة المعاهدين بعض ذكر منها و بما تسموا إليه أفكار الإنسان فيها. فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدوس و بعض كتب الطبيعيات. فقرأها المسلمون و اطلعوا على ما فيها و ازدادوا حريصا على الظفر بما بقي منها. و جاء المأمون بعد ذلك و كانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصا و أوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين و انتساخها بالخط العربي. و بعث المترجمين لذلك فأوعى منه و استوعب. و عكف عليها النظار من أهل الإسلام و حذقوا في فنونها و انتهت إلى الغاية أنظارهم فيها. و خالفوا كثيرا من آراء المعلم الأول و اختصوه بالرد و القبول لوقوف الشهرة عنه. و دونوا في ذلك الدواوين و أربوا على من تقدمهم في هذه العلوم. و كان من أكابرهم في الملة أبو نصر الفارابي و أبو علي بن سينا بالمشرق و القاضي أبو الوليد ابن رشد و الوزير أبو بكر بن الصائغ بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم. و اختص هؤلاء بالشهرة و الذكر و اقتصر كثيرون على انتحال التعاليم و ما ينضاف إليها من علوم النجامة و السحر و الطلسمات. و وقفت الشهرة في هذا المنتحل على جابر بن حيان من أهل المشرق و على مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل الأندلس و تلميذه. و دخل على الملة من هذه العلوم و أهلها داخلة و استهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها و قلدوا آراءها و الذنب في ذلك لمن ارتكبه. و لو شاء ربك ما فعلوه.
ثم إن المغرب و الأندلس لما ركدت ريح العمران بهما و تناقصت العلوم بتناقصه اضمحل ذلك منهما إلا قليلا من رسومه تجدها في تفاريق من الناس رقبة من علماء السنة. و يبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة و خصوصا في عراق العجم و ما بعده فيما وراء النهر و أنهم على ثبج من العلوم العقلية و النقلية لتوفر عمرانهم و استحكام الحضارة فيهم. و لقد وقفت بمصر على تآليف في المعقول متعددة لرجل من عظماء هراة من بلاد خراسان يشتهر بسعد الدين التفتازاني منها في علم الكلام و أصول الفقه و البيان تشهد بأن له ملكة راسخة في هذه العلوم. و في أثنائها ما يدل له على أن له إطلاعا على العلوم الحكمية وت ضلعا بها و قدما عالية في سائر الفنون العقلية و الله يؤيد بنصره من يشاء. و كذلك بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق و أن رسومها هناك متجددة و مجالس تعليمها متعددة و داوينها جامعة و حملتها متوفرون و طلبتها متكثرون و الله أعلم بما هنالك و هو يخلق ما يشاء و يختار.
موقع ابن خلدون للدراسات الإنسانية و الاجتماعية، موقالمصدرع الدراسات موقع ابن خلدون للدراسات الانسانية واجتماعية
publisher تونس